السبت، يناير 09، 2010

طعم البيوت


عندى عشق وولع بالبيوت ليس لانى مهندس فقط ولكن ايضا بسبب كراهيتى للبيت الذى نشأت فيه ، اعرف ان هناك تناقض فى السياق ولكنها الحقيقة التى ظللت زمنا طويلا احاول ان افهمها فأفشل ثم  اتجاهلها عندما اتحامل على نفسى واذهب لزيارة بيتنا القديم  و يبدو ان هناك جذور كثيرة متشعبة فى اعماقى نبتت منها شجرة الكراهية لبيت شهد حنان امى الجارف المقترن بالخوف بل الرعب المبالغ فيه علىّ وعلى سلامتى فقد انجبت شقيقتى ثم انجبتنى وهى تعرف انها لن تنجب مرة ثانية فجعلتنا محور حياتها و شهد تمتعى  بطيبة قلب ابى وصبره العظيم على الالام الفظيعة التى كان يعانى منها بسبب النقرس والروماتويد ، بيتا شهد سعادتى باشياء كثيرة  صغيرة ومخاوف من افكار وتوقعات جالت فى عقلى الصغير فلم اشارك فيها احدا وكنت استيقظ من نومى قلقا واذهب للاطمئنان على ان ابى وامى مازالا على قيد الحياة فقد كان موتهما شبحا ظل يطاردنى طول عمرى حتى توافاهما الله وقد تجاوزت الاربعين،كما شهد ايام المرض التى كنت اعانى فيها من الملاريا مرة ومن التيفود مرة ومن الانفلونزا مرات عديدة ، بيتا عشت فيه ايام الصيف الطويلة الخالية الجميلة مع اقربائى ولم نكن نفترق خلال شهور الصيف يحضرون للاقامة فى بيتنا اسبوعا واذهب لبيتهم فى الاسبوع الذى يليه .
من الصعب فهم  وتحليل الدوافع الحقيقية التى تقود الانسان لاتيان فعل ما او الاحجام عنه و كذلك فمن الصعب الاحاطة بأصول الحالات الشعورية التى تنتاب الانسان حيال مكان ما او شخص ما ، و ربما تعود كراهيتى لبيتنا لاسباب  لا اعرفها واخرى عرفتها مثل التصميم المعمارى الكلاسيكى الذى تكرر فى معظم بيوت القاهرة فى فترة الخمسينات من القرن الماضى ، باب الشقة يفتح مباشرة على صالة كبيرة تؤدى الى كل الغرف والمطبخ و الحمام  واختار ابى ( صاحب البيت ) بسبب حبه للنباتات وغيةالحمام ان تحتوى الشقة على فراندة واسعة جدا بدلا من غرفة الصالون كان يرص فيها اصص الزهور و نباتات الفل والياسمين والصبار  وتحولت مع الزمن الى مخزن كبير للكراكيب ما جعلنى اتردد خجلا فى سن المراهقة من دعوة اصدقائى لزيارتى فى المنزل .
ويبدو ان كراهيتى للسكان الذين كانوا يستأجرون من ابى شقق و دكاكين البيت عمق من كراهيتى لبيتنا بسبب اضطرار ابى للخوض فى مشاكل وقضايا معهم بخصوص قيمة الايجار ومماطلتهم فى تسديده وكانت امى تعيش واعيش معها بالتبعية حالة من الرعب خوفا من الاذى الذى قد يصيبنا و كانت تتوقعه من خصوم ابى .
وكأى مراهق يشعر ان الناس كلهم ينظرون اليه ويراقبون حركاته وسكناته كنت اتجنب دائما النوافذ والشرفات بسبب الجيران  الذين كانوا دائما يطلون من نوافذهم وشرفاتهم حائلين بينى وبين شبقى لتأمل واجهات البيوت ومداخلها والبوابات المصنوعة من الحديد المشغول وبرامق البلكونات واسوار الاسطح والقراميد الحمراء و النباتات التى تتسلق الجدران واعشاش الطيور 
وكنت دائما اقارن بين بيتنا وبيوت اصدقائى واقربائى وكنت ارتاح الى بيوت قليلة منها منزل صديقى عمرو اقرب البيوت الى قلبى فقد كان يتيما ويعيش فى شقة واسعة جدا مع امه التى كنت اعشقها فقد كانت سيدة مثقفه تتلو علينا الاشعار وتحكى لنا  قصص من السيرة النبوية وكان يحلو لها لعب الشطرنج معى بالرغم من هزيمتها فى كل مرة وكانت تضحك مثل الاطفال وهى تشد اذنى ، كانت الفازات الكبيرة الملونة ولوحات السيرما والكنافاه  والبومات الصور ذات الالوان البنية تحكى تاريخ عائلة صديقى ذو الاصول التركية التى اختلطت فيما بالدماء الصعيدية المصرية .
وكنت احب شقة صديقى عز فى حى الظاهر غريبة التصميم فهى مثل الفيلا شقتان بينهما سلم خشبى ندخل الى الشقة السفلية وبعد قليل نسمع دبيب اقدامه على السلم وكانت الشقة السفلية مزدحمة بالكراسى والكنب المريح كما كانت مليئة بالكتب و الروايات العالمية المترجمة فقرأت عنده لجون شتاينبك وسمرست موم وهيمنجواى ووليم فوكنر ،اما فى شقة خالتى فى العباسية فقد كنا نجلس فى المطبخ المتسع الذى يفصله عن باقى الشقة طرقة طويلة ضيقة وكان المطبخ به منشر و سندرة مليئة بالكتب والمجلات وبه نمليه لها ضلف من السلك لحفظ الطعام وكنبة بلدى كبيرة تنام عليها المربية فكنا نجلس عليها للقراءة والدردشة وكان المطبخ اكثر الغرف هدوءا بعيدا عن صوت الترام الذى كان يدوى كل دقيقة فى شارع العباسية .
وكنت احب ايضا شقة صديقى حمادة بجوار نادى سبورتنج حيث كان يعيش وحيدا معظم الوقت بعد طلاق والديه وانتقاله الى شقه خاله استاذ الجامعة الذى كان مسافرا طول الوقت وكان عند حمادة مسجل من الطراز العتيق ذو البكرتان يسجل عليه احدث الاغنيات الفرنسية والانجليزية وكانت شقة فى الطابق الارضى طويلة مثل الجراج و كان سريره ومكتبه والمطبخ فى تلك الصاله الطويلة وكان الحمام هو المكان الوحيد المقفول .
وعندما سافرت الى الخليج بعد تخرجى لم اشعر بذلك الحنين الذى ينتاب المصريين فى الغربة وحديثهم المستمر عن ذكرياتهم والاغانى التى كانوا يجتمعون لسماعها فقد كنت مهموما بانشاء بيت جديد واصبحت مهووسا بمحلات الاثاث وادوات المطبخ والتحف والسجاد والادوات الكهربائية ، وخلال سبع سنوات اصبح عندى بيت جميل  شهد مجونا وانطلاقا كما شهد الاما واحزانا ثم عشت فيه تحولا كبيرا وخطيرا  خشعت له جوارحى فكان الضوء فى اخر النفق ،ولكن قوانين الحياة التى ترفض الكمال والاكتمال و تظهر الاشياء باضدادها ابت الا ان اترك بيتى الجميل ذاك لاعود الى القاهرة ،فاهديت اصدقائى بعض محتويات البيت وبعت بعضه وشحنت ما خف حمله وعلى الفور شرعت فى البحث عن بيت جديد اضع روحى بين جنباته فاخترت بيتا فى حى المهندسين فكان كجواد برى يأبى الترويض ، ما ان شرعت فى تأثيثه حتى توقفت ثم انتقلت بعد شهور قليلة الى مدينة الاسماعيلية وبيتا جديدا هذه المرة له مذاق مختلف بيتا مرصع بالثقوب التى احدثتها مدافع وقنابل اليهود قبل وخلال حرب 73 وكانت مالكته سيده يونانية تؤجره مفروشا للمشروع الذى كنت اعمل به وهناك عشت خمس سنوات رزقت خلالها باكبر ابنائى ، ولما كان بيتا مفروشا فلم تألفه روحى بالرغم من جمال الاثاث وعراقته الا ان هذه الضاحية من الاسماعيلية فى حى الافرنج وحدائقها الجميلة جعلتنى قريبا جدا من ابنى الذى صاحبته بصورة لصيقة  فتمتع بالسباحة وركوب الدراجات فى الحدائق والمتنزهات المحيطة بالمنزل .
ثم عودة مرة اخرى للقاهرة وقد قررت التخلى عن بيت المهندسين وشراء بيتا جديدا فى الضاحية التى احبها ونشأت فيها من المدينة المزدحمة بيتا شهد طفولة اولادى وصباهم دخل اليه وخرج منه اثاثا وملابس وادوات كثيرة وحياة صاخبة مفعمة بالحب والنجاح والاخفاق ، بيتى هذا اجريت عليه تجارب وتعديلات واضافات فى مكوناته و تصميمه الهندسى فتحول الى بيت اخر ثم ضاق بى فتحول نظرى الى الشمال الى ضاحية الشروق التى استلهمت من اسمها مستقبل جديد مشرق فشرعت فى انشاء بيت جديد لاقضى فيه مرحلة غروب حياتى

هناك 10 تعليقات:

Unknown يقول...

استمتعت جدا جدا هنـا

فأنا أيضا للبيوت ذاكرة في حياتي

إيمان قنديل يقول...

من أقوى البوستات التي قرأتها في مدونتك

تحياتي

Tears يقول...

هو شىء طبيعى و مهم جدا ان نكون فى منزل نرتاح فيه نفسيا و الا قد يحيل الحياة لعبء

Unknown يقول...

بل شروق ثانى
وثالث باذن الله

Unknown يقول...

تجولت معك من
هذا البيت
الى ذاك
ومن شرفة
تلك الشقة
الى مطبخ اخرى
كلها أماكن تعبق
بالذكريات نظن اننا
قد نسيناها حتى يشد احدهم
خيطاً منها فتتوالى الذكريات
لقد جذبت انت هذا الخيط فى تلك
التدوينة فجذب معه ذكريات جميلة
عشنا معك فيها .
احتراماتى ياباشمهندس راجى
ودعواتى لك ولى وللناس أجمعين
بموفر الصحة والعافية .

عين فى الجنة يقول...

مياسى
ياريت تحكى عن ذكريات البيوت فى حياتك

عين فى الجنة يقول...

غرام
ربنا يخليكى ويشفيكى ويسعدك

عين فى الجنة يقول...

دموع
ارحب بكى واتفق معك

عين فى الجنة يقول...

دكتورة نورا
اشكرك واسعد الله ايامك بالخير

محمد ربيع يقول...

الحنين للبيوت عندنا كلنا يا باشمهندس