مرة أخرى ضبط نفسه وخواطره تطل من نقطة ما في الفراغ تحمله إلى ماض بلا شاطئ فيرى وجوها ويسمع اصواتا و مرة أخرى تلح عليه المواقف التي تمنى لو كان نسيا منسيا قبل أن يمر بها ومواقف أخرى لم يجد لها تفسيرا عبر سنوات وسنوات ومواقف تمنى لو تجمد عندها الزمان فظلت شاخصة في الأفق مطبوعة على صفحة السماء
هذه المرة جرب أن يعود بذاكرته إلى أول شيء يتذكره في طفولته لا يذكر شيئا قبله فلم يستطيع أن يتذكر ابعد من جلوسه على كتف أمه وهى واقفة في المطبخ ورأسه تكاد تلمس المصباح المتدلي وهو يشير إلى ما فوق الأرفف من اوانى وعلب ويسألها : إيه ده ؟ فترد عليه بصوتها الفرح المحبب إلى نفسه فيستشعر السعادة و يعود إلى السؤال : إيه ده ؟ فتجيب مرة أخرى ومرة أخرى ومرات عديدة و تجلس على الكرسي العتيق ويقف في حجرها و أمامه النافذة ويشرف على الشارع الهادئ ويمتد بصره إلى بيوت ونوافذ وشرفات عاشت معه وشكلت جزء من وعيه بالمكان تمسك به بقوة خوفا عليه من السقوط فيلتصق بها ويدفن وجهه في صدرها ويغلبه النوم ثم يستيقظ وهو على الأريكة التي في البهو لكي تراه عيناها على الدوام فهي تود أن لا يغيب عنها لحظة واحدة
كانت قد شارفت على الخمسين حين أنجبته بعد سنتين من ولادة شقيقته وقد أيقنت أنها لن تنجب من بعده فحاصرته بالحب والحنان حتى كادت أن تهمل أخته وكانت لحظات من السعادة الحقيقية عندما تضعه في فراشه عند حلول الليل وتغنى له بصوتها الشجي وهى تمسح على رأسه،
وكانت تحاصره بالخوف المجنون على حياته فحبسته عن اللعب مع أولاد الجيران لا تستجيب لبكائه ونحيبه و لما تركت له القليل من الحرية كان يحلو له اكتشاف الأماكن والدكاكين وحدائق البيوت في الحي الهادئ وكان الشارع الذي يقع بيتهم على احد جانبيه يقسم الحي إلى منطقة راقية خلفية تحيط الأشجار ببيوتها وقريبا من منزلهم بيت الخواجاية وأولادها ذوى الشعر الأصفر يتحدثون الفرنسية ويترفعون عن اللعب مع أولاد الجيران وعندما سقطت كرته في حديقة الخواجاية خرج له السفرجى الأسمر وقال له لن ترى الكره مرة أخرى لان المدام غضبانة فجعله الرعب ينسى الكره ويهرب إلى حضن أمه
وعلى الجانب الأخر بيوت كلح الطلاء على حوائطها عامرة بالناس والحياة والكثير من الأولاد والبنات الذين لا يكفون عن الحركة والصخب و كان يقترب من الأولاد في حذر ويقف يراقبهم منتظرا منهم دعوته إلى مشاركتهم اللعب حتى نجح في كسب ود احدهم فأصبحا صديقان
كان صديقه مغامرا لا يهاب الناس فيتحدث مع الكبار بسهولة تدهشه وكان لإيهاب السيارات التي تسير الهوينى في الشارع بينما كان يرتعد منها خوفا و يتذكر حين صفعته على وجهه بقوة أذهلته لما خرج مع صديقه يلعب على الكوبرى الذي يمر من تحته القطار سريعا فيميلان على الحاجز الحديدي ويلقيا أوراقا على القطار فترتد إليهما صاعده على الهواء الساخن المندفع إلى أعلى وحينما استدار وجدها خلفه فصفعته تلك الصفعة التي لا يستطيع أن ينساها فلم يتوقع أن تضربه أبدا
في مرحلة مراهقته احتوته وبفطرتها لم تتركه نهبا للقلق والحيرة كان يشعر بعيونها خلف ظهره وهو يتطلع إلى بنت الجيران وكانت تمتص غضبه غير المبرر وكانت تغسل له ملابسه الداخلية بدون تعليق على الآثار التي كانت عالقة بها وكانت تضحك عندما تراه يسرح أمام المرآة بالساعات يمشط شعره ويدندن اغانى الحب والغرام
ولازال يسمع الزغرودة العالية وقد تكون الوحيدة التي أطلقتها حينما احضر له ساعي البريد نتيجة التنسيق والتحاقه بكلية الهندسة وبعدها لم تعد تناقشه أبدا في طلباته التي كان يبالغ فيها دائما ليستطيع أن يخنصر ثمن تذكرتي سينما أو علبة سجائر
ويوم اخترق الألم صدرها فصرخت وسقطت على الأرض بجوار سريرها سقط معها قلبه ونظر إليها بلا حول ولا قوة وعاشت بعد ذلك على الأدوية المسيلة للدم ولكنها لم تفقد نشاطها وحيويتها
تحملت فراقه سبع سنوات يعمل في الخارج وكانت تحتاج لمساعدته المالية ولكنه كان في غمرة مع الساهين ولم يدرك ما تعانيه هي وأبوه المسن إلا بعد أن صرحت له أخته باحتياجاتهم التي لا تستطيع أن توفيها وحدها
وعندما تزوج كانت سعيدة مبتهجة وتغاضت عن كل الاهانات التي واجهتها من أسرة العروس المتعجرفة ليس عن ضعف فطالما واجهت الشدائد بقوتها العجيبة فلم تكن تخشى أحدا وكانت دائما تشعر أن كفتها هي الراجحة ولكنها ماكانت لتفسد عليه سعادته
وفى سنواتها الأخيرة استضافها في بيته بدون تردد حممها وأطعمها بيده وقصر لها شعرها ودفع لها الكرسي ذو العجلات لتستمتع بشمس الشتاء في الخارج وخاصم من اجلها امرأته ونام على الأرض بجوار فراشها ليلبى طلباتها وكان لا ينام إلا سويعات قليلة يخاف أن يغط في النعاس فلا يسمعها إذا نادته
وعندما جلس بجوارها وهى ممددة في سيارة الإسعاف تنقلها إلى العناية المركزة أمسكت بيده وابتسمت وهى تنظر بعيون فارغة ، وقضت أسبوعان في وحدةالانعاش ثم تحسنت وأفاقت فظن أنها ستعود إلى المنزل ونقلت إلى غرفة بالمستشفى وفى الصباح كانت نائمة والأنبوب الشفاف يحمل السائل الملحي إلى عروقها فاضت روحها
كان في فصل الشتاء ووقف ينظر إلى الناس والبيوت والسيارات وقد تشوهت وتاهت صورهم في تكثف بخار الماء المتصاعد مع أنفاسه الحارة على زجاج نافذة المستشفى البارد ثم تنحدر قطرات الماء إلى الأسفل