نجح فى غزل شرنقته التي تعزله عن الناس ، نوافذ بيته القديم فى وسط المدينة صار لها الواح زجاجية مزدوجة ثابته يتطلع الى الناس فى الشارع من خلفها ولا تصله اصواتهم ، يراقبهم يمشون كسالى تعلو وجوههم غبرة يتخبطون ويتعثرون يلوحون بايديهم ويتلامسون ، عندئذ يشعر بالوهن يتسلل الى جسده فيسحب الستار الثقيل لينطفيء الشارع ويستديرالى غرفته المعزولة ليستلقى على كرسيه بجوار المصباح ذو الغلالة الصفراء ثم يغرق فى صفحات كتابه حتى ينام
فى الصباح ، يصدر الصوت الخافت للجهاز المتصل بباب البيت الحديدي فيضغط الزر ليدخل النوبي الشيخ ذو الجلباب المقلم والعمامة ناصعة البياض ، عندما ينتهى النوبي من صعود درج السلم يكون هو خلف الباب فى بزته القديمة ورابطة العنق السوداء مستعدا للخروج فى نفس اللحظة ، يهز راسه وبدون كلمات يدخل الشيخ النوبي الوحيد الذى يثق فى انه سيؤدى المطلوب منه من نظافة واعداد طعام فى الموعد المحدد ثم يغادر البيت قبل عودته بعد ان يأخذ مظروف الجنيهات القليلة الذى يتركه له على الرف اسفل المرآة الكبيرة بجوار الباب
يدلف الى المرآب من الباب الداخلي ليفتح الباب المؤدى الى الشارع اعلى المنحدر ويقود سيارته الصغيرة فيتصاعد دخان العادم الابيض من الانبوب الخلفي لينضم الى صفوف السيارات البطيئة فى نهر الشارع ، يرفع زجاج النافذة بالرغم من حرارة الجو حتى لايصل اليه الضجيج
بعد دقائق تصل سيارته بمحاذاة المقهى فى الميدان ينظر الى الجالسين على الموائد التي اصطفت على الرصيف فلا يرى احد من اصدقاء الماضي ، لقد رحل الاصدقاء من المقهى كما رحلوا من حياته ، كم كانوا يمرحون ويصخبون ، كانوا يسيرون فى نهاية الليل عبر طرقات وسط المدينة الخالية حتى المذبح على مشارف الحى الشعبي فيجلسون الى احدى الموائد لتناول الكباب وسط الزحام ودخان الدهن المحترق المتساقط على جمرات الفحم ، كانت هناك فى تلك الليلة القمرية بعطرها الفواح الذى تسلل اليه بالرغم من رائحة الشواء التى تعبق الهواء ، يهز رأسه ليطرد اشباح الماضى
فى محل عمله يراقب مساعدته خلف القاطع الزجاجى تشير الى احد المرؤوسين يطلب رؤيته فيهز رأسه ملبيا الطلب ، يدخل المرؤوس فيراجع الاوراق التى وضعها امامه ثم يمهرها بتوقيعه ، تردد المرؤوس قليلا ثم قال
- هون على نفسك يا بك لقد مرت شهور
صوب اليه نظرة ارتجف لها المرؤوس وقام على الفور مرتبكا تتعثر خطواته الى الباب الزجاجى نظر فوجده يتبادل الحوار مع مساعدته
اه لو لم يدق الهاتف اللعين فى ذلك اليوم ، اه لوكان الشارع هادئا وخاليا من الناس والسيارات ، كل شيء تحالف ضدى ذلك اليوم
موجة جديدة عاتية من الذكريات تهاجمه ، عندما عبر اليه عطرها فى تلك الليلة القمرية التفت فوجد عيناها تفحصه بل تقرأه بجراءة غير معهودة بينما الرجل الاشيب الذى يجلس اليها مشغول بالكباب والثرثرة
عيناها السوداواتان لهما عمق كبئر بدون قاع تحت حاجبان مزججان وحولهما الظلال الكستنائية بلون شعرها القصير على الطريقة الفرنسية وقد افترقت شفتاها الشهوانيتان لتكشف عن ذلك الفارق الجميل بين اسنانها الامامية ، نظر الى اصدقائه وهتف ضاحكا
لكزه صديقه وطلب منه ان يصمت
- الا تعرف الرجل الذى ترافقه ؟
- لا اهتم
- انه سفيرنا فى تلك الدولة الاوروبية
قامت الى دورة المياه فتبعها ووقف حائلا بينها وبين المرور فى الممر الضيق
- من انت ؟ من اى كوكب هبطتى لتأسري روحي ؟
اقتربت منه حتى التصقت به وهمست فى اذنه
- بعثت فتنة للرجال
- صدقتى
- ولكنى لست حرة واخاف من الرجل فله نفوذ وسلطان
- ستكونين حرة
تبادلا ارقام الهواتف وافترقا
عاد الى اصدقائه فحكى لهم وبينهم صحافي مجتهد وعده بأن تكون خالصة له
بعد يومين نشرت الصحيفة خبر فى صفحة المجتمع تحت عنوان
" السفير فلان يتناول الطعام مع ابناء الشعب "
وفى تفاصيل الخبر ابرز الصحافي ان سعادة السفير كان بصحبة احدى السيدات والتي خلبت لب المواطنين بجمالها و نعومتها وان وجودهما فى المطعم الشهير بالحى الشعبي بالقاهرة خير دليل على التحام الحكومة بالشعب
فى نفس يوم نشر الخبر تم استدعاء السفير الى مقر الوزارة وصدرت له الأوامر بأن يقطع علاقته بتلك السيدة
اتصلت به لتعبر له عن اعجابها بذكائه وسعة حيلته واتفقا على لقاء عاشا بعده فى غرام صادق دام شهورا ثم تزوجا وقنعت بالمكوث فى البيت القديم ثم حملت فزاد حبه لها والتصاقه بها وشرعا فى كتابة قائمة باسماء المولود المنتظر
افاق من الذكريات وانهمك فى عمله حتى انصرف كل المرؤوسين فصرف مساعدته ثم خرج مهرولا لا يلتفت الى رجال الامن على المدخل واستقل سيارته وقد انسدل الغروب على المدينة
يعود مرة اخرى الى مقعده بجوار المصباح ذو الغلالة الصفراء ويفتح الكتاب على نفس الصفحات التى لم تقلب منذ رحيلها ، يراها قادمة وهى تهرول من المطبخ وفى يدها الهاتف يأخذه منها وهو بجوار النافذة التى تحمل ضجة المدينة الى داخل الغرفة فلم يتبين صوت الانفجار المكتوم الصادر من المطبخ
كانت قد اهملت احكام غطاء قدر الضغط لتسرع له بالهاتف وعندما عادت تعمل بجوار الموقد زاد ضغط البخار داخل القدر فطار الغطاء وارتطم برأسها كالقذيفه فسقطت على ارض المطبخ فاقدة الوعى
ناداها فلم ترد عليه ولما ذهب الى المطبخ ووجدها راقدة على الارض والدماء تسيل من جبهتها وتصبغ عيناها وشفتيها اسرع الى الشارع وصرخ فى الناس طالبا النجدة ولكنها كانت قد فارقت الحياة
فى سرادق العزاء وقف يصافح المعزين ثم وقف امامه رجل لم يمد يده ليصافحه فرفع بصره اليه فكان سعادة السفير فى مواجهته يبتسم له ، صرخ فى رعب وانطلق يجرى لا يلوى على شيء
سقطت رأسه على صدره وراح فى النوم وهو جالس على مقعده بجوار المصباح ذو الغلالة الصفراء وفى حجره الكتاب المفتوح على نفس الصفحات منذ شهور فى الغرفة الهادئة المعزولة